الأعراض المرضية تدخل الأرجنتين في التجربة الشعبوية
وتتوالى الحوادث، وتحدث ظواهر تثبت أن عالمنا مبتلى بأعراض مرضية، تظهر في وقت تتزايد فيه التوقعات بضرورة الاستجابة للتحديات الدولية التي تنشأ كلما غض العالم عنها. وبدلاً من الرد، هناك خيبة الأمل، ويصفع هذا العالم أطفاله بحرب أو جائحة أو ظهور زعيم شعبوي في هذا البلد أو ذاك. وفي هذا السياق، فإن ظهور اليميني المتطرف خافيير ميلي، وصعوده إلى رئاسة الأرجنتين، لا يمكن تفسيره إلا بتنصل الجماهير من مسؤولياتها تجاه التحديات التي تواجه بلدانها، وتحويل المسؤولية عن تلك المواجهة. لمرشح وضع رقبتها بين يديه، بعد أن وعد بتحقيق معجزة اقتصادية عبر السياسات. أولئك الذين ليسوا على دراية بالاقتصاد يعرفون أنه تخريبي.
وهكذا، وبعد الحديث عن تراجع الشعبوية في العالم، وصل إلى رئاسة الأرجنتين شعبوي يصف نفسه بـ«الرأسمالي الفوضوي». ومن المرجح أن يكسر رؤوس شعب بلاده، وربما رؤوس شعوب الدول الأخرى، لفترة طويلة، بسبب مخططاته التي ستدمر المؤسسات القائمة. وبعد خروج دونالد ترامب من السباق الرئاسي مهزوما، تم تسجيل تراجع في الشعبوية في السنوات التي تلت ذلك، مع هزيمة جايير بولسونارو في البرازيل، وهزيمة الرؤساء في سلوفينيا وسريلانكا، والتزام الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي. لولاية رئاسية واحدة وخروجه من السلطة بعد أن انتهت منتصف العام الماضي. إلا أن وصول ميلي إلى رئاسة الأرجنتين يحد من هذا التراجع، وربما يدفع إلى ظهور أمثاله في دول أخرى، خاصة مع سهولة خداع الناخبين بالوعود، مثل المعجزة الاقتصادية التي وعد بها ميلي، والتي جعلت فوزه محتملا. . وما كان ذلك ليحدث إلا بسبب الأزمة الاقتصادية التي رافقها ارتفاع التضخم وحجم المديونية للصناديق الدولية وانهيار العملة الوطنية، إضافة إلى الركود وتراجع مستوى المعيشة وارتفاع معدلات التضخم. ومعدل البطالة، وكل ذلك ترافق مع فقدان الأمل في قدرة الطبقة الحاكمة على حل هذه المشاكل. كل هذه العوامل دفعت الناخبين إلى تصديق وعود ميلي بالمعجزة التي ستتحقق على يديه، مع العلم أنه لم يبني شعبيته إلا من خلال انتقاد تلك الطبقة التي فشلت في إيجاد الحلول.
تراجع مستوى المعيشة وارتفاع نسبة البطالة، وكل ذلك مصحوبا بفقدان الأمل في قدرة الطبقة الحاكمة على حل هذه المشاكل… عوامل دفعت الناخبين إلى تصديق وعود ميلي بالمعجزة التي ستحدث يتحقق على يديه.
ويقول ميلي إنه يحمل نظريات غير تقليدية للإصلاح الاقتصادي، كشفها الله له من خلال كلبه، والتي نقلها عندما رآه في المنام. وهذا التفصيل الغريب يمكن أن يعطي فكرة عن أسلوب الخداع الذي استخدمه، وهو صاحب الظهور التلفزيوني المستمر، من أجل خداع البسطاء واليائسين والساخطين والمنفصلين عن أحزابهم بسبب واستياءهم من فشلهم في إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية المتلاحقة، من أجل كسب أصواتهم. أما نظرياته غير التقليدية في الإصلاح، فهي غير تقليدية حقا، لأنه لا يمكن لأي عاقل أن يتبناها، خاصة من يتعامل مع اقتصاد يعد من الاقتصادات الكبرى في العالم.
فبمجرد معرفة أن ميلي سيعمل على دولرة اقتصاد بلاده من خلال استبدال العملة الوطنية، البيزو، بالدولار، يمكن معرفة مدى القصور في خططه، وتوقع مدى البلبلة والفوضى التي ستعم البلاد. وسوف يتعرض الاقتصاد الأرجنتيني لتأثير ذلك على الحياة الاجتماعية والسياسية. فالدولرة ستربط البلاد اقتصادياً بسهولة وتلقائية بالسياسات الاقتصادية الأميركية، خاصة مع نيتها إلغاء البنك المركزي الذي يحدد السياسات النقدية. وبالتالي فإن السياسات النقدية للأرجنتين سيتم تحديدها في واشنطن في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهذه السياسات قد لا تناسب الأرجنتين واقتصادها. وخلافاً لأي سياسات اقتصادية أو نقدية أخرى، يمكن التراجع عنها واعتماد أخرى إذا فشلت، فإن خطوة الدولرة لا يمكن التراجع عنها في منتصف العملية إذا تبين لمتبنيها خطأها، أو إذا لم يكن ذلك ممكناً. لتأمين مبالغ ضخمة من الدولارات لاستبدال البيزو بها، وهو ما تفتقر إليه الأرجنتين هذه الأيام، حيث لا تستطيع الحصول على قروض لإنجاز هذه المهمة بسبب عدم قدرتها على سداد القروض السابقة. ولذلك فإن هذه الخطوة تشكل انتحاراً للاقتصاد الذي يتبعها وللسياسيين والاقتصاديين الذين يقررون ذلك.
وما ميلي إلا طفل طبيعي لسياسة دولية عرجاء اختل توازنها لسنوات، وقد تكرر هذا الأمر وتزايد عشية وصول الرئيس الأميركي الشعبوي السابق دونالد ترامب إلى الرئاسة.
ولم ينس ميلي العمل وفق وصفات البنوك المقرضة التي تفرض الإضراب على مكتسبات العمال والطبقة العاملة والطبقات المضطهدة التي حققتها على مدى سنوات من التعب والنضال. وبالتالي، فإنه سيخفض الإنفاق الحكومي والفوائد، ويقضي على الوظائف الحكومية، ويعرض شركات القطاع العام للخصخصة. ولن يكتفي بذلك، فهو يفكر في تقليص الوزارات إلى الحد الأدنى. سيلغي وزارات الصحة والتعليم والبيئة، ويعتزم إلغاء برامج “الصحة للجميع” المجانية وإلغاء مجانية التعليم في المدارس والجامعات. أي مستقبل ينتظر هذه المؤسسات الحيوية؟ فماذا سيحدث للمواطنين الذين يحصلون على خدماتها، خاصة أن ذلك سيؤدي إلى تبخر المكاسب التي توفرها هذه الوزارات؟ ومن المتوقع أن ميلي، الذي يدعم الاتجار بالأعضاء والبشر، يريد من الفقراء أن يبيعوا أعضائهم أو أطفالهم من أجل تأمين طعامهم أو دفع فواتير المستشفيات وشراء الأدوية. وبالنسبة له لا حل لمشكلة الفقر والجوع إلا من خلال الصدقات التي يقدمها الأثرياء والشركات الكبيرة. فالعدالة الاجتماعية بالنسبة له ليست سوى سرقة أموال الأغنياء لإعطائها للفقراء. أما وزارة البيئة فسيقوم بإلغائها، لأنه ينفي التغير المناخي ويعتبره «كذبة اشتراكية»، رغم معاناة بلاده من الجفاف للعام الثالث على التوالي، الذي تسبب في خسائر بمليارات الدولارات لبلادها. زراعة.
ومما زاد من حالة الفوضى، قال ميلي إنه لن يتعامل مع الاشتراكيين والشيوعيين في البرازيل والصين، علماً بأنهم من أكبر الشركاء الاقتصاديين لبلاده، بل سيعزز علاقاته مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، التي العلم الذي رفعه يوم إعلان فوزه. من المؤكد أن ميلي لا يهتم بالعواقب، وبالتالي ليس لديه أي فكرة عن المشاكل التي قد تسببها نظرياته. وهذا يقودنا إلى التساؤل عن سبب هذا الاستهتار، وسبب إثارة الفوضى المتعمدة في بلد شهد حروباً أهلية بسبب حكم الديكتاتوريات ومحاولات السيطرة والسيطرة والحرمان، وهو ما يحاول ميلي اتباعه. من خلال فرض رؤيته ونظرياته غير الواقعية والتخريبية.
سيقوم الرئيس ميلي بإلغاء وزارات الصحة والتعليم والبيئة، ويعتزم إلغاء برامج “الصحة للجميع” المجانية وإلغاء التعليم المجاني.
ولكن، كيف ظهر خافيير ميلي، ولماذا أراد أن يتبع هذا المسار المدمر في الاقتصاد والسياسة؟ وما ميولي إلا طفل طبيعي لسياسة دولية عرجاء فقدت توازنها منذ سنوات، وقد تكرر ذلك وتزايد عشية وصول الرئيس الأميركي الأسبق، الشعبوي دونالد ترامب، إلى الرئاسة، والسيطرة على البلاد. وسيطر اليمين المتطرف على العديد من الحكومات في أوروبا، بالإضافة إلى انتشار العدوى الشعبوية إلى دول أخرى. ولا تصلح هذه السياسة الدولية إلا لتضييق الخناق على الطبقات الدنيا، ودعم رموز البرجوازية المتوحشة، والتهرب من المسؤوليات تجاه تغير المناخ، وحرمان كوكب الأرض من ثرواته إلى حد النضوب. فضلا عن التهرب من مسؤولياتها تجاه الأوبئة التي تنتشر لتصيب الجميع. وتجيد الاعتداء على الحريات والحقوق، وتعتمد على القوة العسكرية في حل الصراعات، والتي ظهر آخرها في قطاع غزة، مع الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني هناك، ورفض معظم الدول الغربية ‘ ليوقفها القادة من أجل تحقيق أكبر قدر من القتل والدمار، في موقف غريب من نوعه يظهر مدى وحشية هؤلاء القادة.
وقد تصطدم خطط خافيير ميلي برفض البرلمان والمحكمة العليا، مما يمنع تنفيذ الكثير منها، خاصة خطة الدولرة التي تعتبر انتهاكا لسيادة البلاد واستقلالها. لكن ميلي لديه خطط أخرى ستحظى بدعم الدول الغربية والبرجوازية المحلية، ليس من أجل حل مشاكل الأرجنتين، بل لإضعافها. أكثر، وشروط صناديق الائتمان تُفرض بسهولة أكبر، تمهيداً للحصول على عقود ميسرة تبطل المزيد من الانحدار والفقر والبطالة. ومن ثم فإن هذا الفوضوي سيجعل من بلاده ساحة للفوضى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مما يعتبر ساحة مثالية أهداها الشعبويون لتجار الكوارث الذين أحلامهم في السيطرة تجعل هذا الكوكب ضيقا.